أشباه قصص – البحث عن الذهب2. معجزة الأصم الأبكم الذي تكلم

1٬191 views مشاهدة
minou
أشباه قصصسردمؤلفــــات
أشباه قصص – البحث عن الذهب2. معجزة الأصم الأبكم الذي تكلم

أنهيتُ للتو مباراة اليوم. خرجتُ منها منتصرا بهدفين نظيفين: أحدهما في شباك القطار، والثاني في مرمى المستشفى، ولم يكن السر في ذلك سوى أني عملت بالمثل الشعبي المغربي القائل: «الفياق بكري بالذهب مشري». استيقظتُ باكرا جدا لكي أبحث عن ذهب مثلنا الشعبي، في السادسة والنصف صباحا، وبعد مرور ساعة على رنين منبه الساعة لإيقاظي.
ضحيتُ بإحدى وصفات الطب التقليدي التي واظبتُ على تناولها يوميا على الريق منذ أزيد من شهر، مع أنَّ مفاوضاتها مع الجسد طيلة هذه المدة بدأت تعطي مؤشرات إيجابية، فيما يبدو، ثم دسست فطوري وأدويتي في حقيبتي، وناولتُ القطط فطورها باكرا على غير المعتاد، ما أثار توجسَها كثيرا، لاسيما القطان اللذان سبق أن شاهدا بأم عينيهما ما فعلتُه بقطة كانت واظبت على افتراس طيور المنزل، دونَ أن ينفع معها تنبيه ولا تحذير ولا ضرب ولا منحها مهلة عساها تثوب… لم ينفع معها ذلك كله، فما كان مني إلا أن استيقظتُ ذات صباح باكر ووضعتُها في قفص، ثم أخرجتها من البيت، وألقيتُ بها بعيدا في ساحة قطط خلوية، فلم يرها القطان بعد ذلك أبدا… تناولت القطط فطورها، وهي تراقبُني متوجسة حتى إذا حان وقتُ الخروج، وفتحتُ الباب، سارت في كل الاتجاهات، واختفت في رمشة عين، ربما حَسِبتْ أني أضعها في القفص وأخرجها إلى حيث لا رجعة فخافت وفرت…
محطة القطار. الساعة الثامنة صباحا. أمنتُ شرَّ ركوب قطار أمس الذي يبدو أنه اعتنق مذهب التأخر عن سبق إصرار وترصد فأصبح للكثير من المسافرين في هذا التأخر مآرب؛ قال أحد المسافرين يوم أمس لصديقه، بعد أن طال الانتظار، وغصّ الرصيف بحشود المسافرين الذين ينتظرون مجيء القطار:
– هذا القطار هو الوحيد الذي يتأخر دائما بأكثر من نصف ساعة، لم يصل ولو مرة واحدة في توقيته! وربما كان عدد كبير من المسافرين يتعمدون ركوبه أصلا للسفر بدون أداء، لأن الزحام يحول دون مرور مراقب التذاكر، بين القنيطرة والرباط، على الأقل!
رجحتُ أن يكون هذا التفسير صائبا، إذ لبعض المسافرين في مراوغة الأداء تقاليد راسخة وحيل لا تخطر على البال. من ذلك ما حكاه أحدهم ذات سفر، بعد أن ضبطه مُراقبُ التذاكر، قال:
– هذه هي أول مرة أؤدي فيها ثمن السفر! وقد راوغتُ المُراقب مع ذلك، إذ زعمتُ له أني ركبتُ في القنيطرة، وأني ركبتُ القطار بالخطأ، في حين ركبتُ في الحقيقة من محطة طنجة!
ثم طفق يحكي قصصا طويلة عن فنون من الاحتيال للسفر «مجانا»، أبرزها أنه كان يشتغل وخمسون صديقا له في ورشة بناء بالدار البيضاء، فاجتهدت الجماعة إلى أن نجحت في إرشاء مُراقب باب دخول رصيف الركوب بمحطة القطار، فكان الخمسون فردا يمدون الحارس ببضعة دراهم للشخص، فيسمح لهم بولوج الرصيف القطار تذاكر السفر، ثم تفننوا في الاجتهاد إلى أن نجحوا في إرشاء مراقب القطار نفسه، فكان كلما ضبطهم، أثناء السفر، سلموه خمسة دراهم للفرد، فيمضي وفي جيبه 250 درهما فرحانا مسرورا، بدل أن يصدع رأسه باللجاج والخصام مع كل واحد منهم على حدة. لِجاج سيفضي دون شك إلى مشكلة كبيرة لأنه سيتعذر عليه، بعد كل شيء، أن يلقي القبض عليهم جميعا، ويسوقهم إلى الشرطة!
اكتظ الرصيف عن آخره بالمسافرين. معظمهم حمل هاتفا ذكيا واستغرق في التفاعل مع شاشته، تارة بالتصفح، وتارة بقراءة الرسائل، وتارة بالكتابة… لو شاهد أجنبي هذا المنظر وسألك ماذا يفعل كل هؤلاء بهواتفهم؟ وأجبته بأنَّ الحكومة المغربية قد قررت الالتحاق باليابان أو كوريا الجنوبية، وأن جميع المواطنين بصدد تعلم البرمجة أو تصميم برامج، أو تعلم صناعة الأجهزة الرقمية، لانتابه الهلع، وقرأ صلاة الجنازة على فرنسا وإنجلترا، وربما حتى على أمريكا! في حين الحقيقة المرة هي (وأراهنُ هنا برأسي):
باستثناء بضعة أشخاص يعدون على رؤوس الأصابع، الشغل الشاغل لمعظم هؤلاء هو محادثة الجنس الآخر: الذكور يبحثون عن الإناث ويدردشون معهن ويراسلوهنَّ، والإناث يفعلن الشيء نفسه. الإناث ابتغاء ركوب «العمارية» والخيانة الزوجية وممارسة الجنس بمقابل أو لقضاء مصالح، والذكور ابتغاء المراوغة والخيانة الزوجية وإبراز العضلات الدون جوانية… لا يُستثنى من ذلك متزوجون ومتزوجات، كهولٌ وفتيانٌ وفتياتٌ: ذات سفر، جلس أحدهم بجانبي، شبه بدوي أو عامل بسيط جدا ينحدر من مدينة صغيرة، ثم استغرق في التعامل مع هاتفه استرقتُ النظر فإذا بشاشة الواتساب ممتلئة عن آخرها بأسماء نساء: أستاذة، أسماء، سهام، سكينة، عزيزة، بنت كازا، بنت تمارة، بنت طنجة، بنت وجدة، وما إلى ذلك…
وصل القطار، لكن المقاعد لم تسع كل المسافرين. قبل الصعود كان مكبر صوت المحطة قد أنشد أكثر من مرة، بصوت أنثوي رخيم، أغنية باللغتين العربية والفرنسية، مفادها:
«أيها المسافرون، لكيلا تسافروا واقفين، الرجاء ركوب القطار الذي يحمل الرقم المسجل في تذاكـركم!»
حسنا، هذا جميل، ها كل المسافرين قد استجابوا للنشيد فلماذا لم يحترم القطار المسافرين ولا نفسه، فحمل ما لا طاقة له به؟!…
راودتني فكرة أن أتسوَّل مقعدا، وذلك بأن أتجه صوب مسافر أو مسافرة بدينين، ممن يبدو أنَّ مرض القلب والشرايين متربص بهم جراء الخمول وعدم المشي، وأتظاهر بالتعب الشديد، ثم أدلي بملف المستشفى الكبير المكتوب على غلافه «أمراض القلب والشرايين»، كما يُدلي العديد من المتسولين بأوراق طبية لا أحد يعرف حقيقة ما إذا كانت صحيحة أم مزورة… شجعني على الفكرة أني قلتُ: لو فعلتُ فسأكون أسديتُ جميلا كبيرا لمن يتصدق (تتصدق) علي بمقعده، لأنَّ الوقوف سيفقده (سيفقدها) مئات السعرات الحرارية وسيُنزلُ نسبة الكوليسترول الضار من بدنه (بدنها)…، لكني خجلتُ من نفسي، فتراجعتُ.
في أقصى العربة، كانت توجد شبه دعامة حديدية مخصصة لوضع أمتعة المسافرين التي لا تتسع لها المقصورات. وبما أنها كانت فارغة، فقد جلستُ فوقه وخرجتُ من الباب الواسع. لحظات، وها هي سيدة في الثلاثينات، تفعل مثلي تماما، وتجلس بجواري. لحظات أخرى وها هي سيدة ثانية تفعل مثلنا. أيقنتُ أن التقليد متأصل في الثدييات، قططا كانت أو أرانب أو بشرا أو قردة…
في منتصف الطريق، انبجس المراقبُ؛ كان رجلا تدلى شعرُه الأبيض تحت القبعة الزرقاء الشبيهة بقبعات الشرطة والدرك وضباط الجيش، طلب التذكرة من جارتي، سلمته ورقة نقدية محترمة، سلمها صك السفر بسعر مضاعف، ثمَّ شكرها بأدب ولياقة كبيرين، وانصرف. أغلب الظن أنَّ جارتي أخطأت القطار؛ ربما تعودت ركوبَ قطار 8.30 دقيقة الذي لا يصل دائما قبل الساعة 9.00، والسفرَ مجانا، فإذا بها تؤدي ضريبة العجلة… أغلب الظن أيضا أن أَداءَها بورقة نقدية محترمة كان رسالة موجهة لمسافري المقصورة وللمراقب مَفَادُها: لست «سالتة». أملك ما من المال ما يغنيني عن القيام بهكذا مخالفة! من أقصى المقصورة، تشابك بالأيدي، وصراخ. اتضحَ أن المراقب كان مشتبكا مع أحدهم «سلتَ» هو الآخر، أي صعد إلى القطار بدون تذكرة سفر، لكنه رفض الأداء. لحظات، وها هو «السَّالت» يندفع في ممر العربة مهرولا لاهثا، وكان شخصا سمينا قوي البنية، يمسك بإحدى يديه كناش حالة مدنية… اندفع، ثم وقف في أقصى طرف العربة المعاكس للذي كان فيه قبل قليل. اتضحَ أنه كان أصم أبكم. أجهد نفسه في مخاطبة المسافرين، فما أسعفت حنجرته ولسانه سوى الأصوات التالية التي كان يرفقها بإشارات يدوية:
– أه، أه!
– ممممه، ممممه!
– بَّبَّه بَّبَّ!
اتضحت حكايته: هو أيضا «سلت». لكنه، بخلاف جارتي، نجح في مراوغة المراقب ومواصلة السفر دون أن يخرج من جيبه مليما واحدا أو يلقي المراقب القبض عليه: أنقذه كل من عاهته وعجز القابض عن التواصل معه! (فاتَ المكتب الوطني للسكك الحديدية توظيف مراقب أصم أبكم ليتواصل مع هذا النوع من المسافرين!)، بخلاف البنت الأخرى الجميلة الأنيقة التي سيباغثها المراقبُ لحظة تهيؤها لصعود القطار، من محطة سلا تابريكت، بدون تذكرة، إذ لم ينفعها الاحتجاج ولا الصراخ، ولا إشهار ثلاث بطاقات اشتراك، ولا إعادة اللازمة التالية مرارا وتكرارا على مسمع شرطي القطار:
– بطاقتي انتهت مدة صلاحيتها يوم أمس فقط، أنا أسافر منذ ثلاث سنوات، وكل موظفي محطتي الرباط والقنيطرة يعرفونني حق المعرفة!
كان المراقبُ ينصت إليها جيدا، بدم بارد جدا، ثم يعيد هو الآخر على مسمعها اللازمة التالية بمنتهى الهدوء:
– متشرفين ألالَّة، أنا ما كذبتكش، طالب منك حاجة وحدة: خلصي ثمن التذكرة!
وسبب هدوئه وبرودة دمه أنه كان قد اعتقل البطاقة الوطنية لمخاطبته… عندما تحققت الفتاة بأنَّها لن تجني طائلا من وراء تعللها وصراخها، وأنَّ الشرطة ستكون في انتظارها إذا واصلت الاحتجاج، سددت ثمن التذكرة، ثم صعدت، ومرقت إلى عربة أخرى تحاشيا لنظرات المسافرين…
وصل القطار إلى الرباط، نزل الأصم، تقدمني ببضعة أمتار. في باب محطة القطار، بينما كنتُ أبحث عن سيارة أجرة صغيرة كان الأبكم نفسه قد سبقني إلى واحدة، فإذا بي أسمع بأذني وأرى بأم عيني المعجزة وهي تقع قبالتي: لقد شفي صاحبنا من صمه وبكمه في لمح البصر: خاطب سائق سيارة الأجرة بلسان فصيح طليق وصوت مسموع!!!

الاخبار العاجلة